فصل: معتقد اليهود وكيف وقع عندهم التبديل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 تاريخ اليهود وأعيادهم

قد كانت اليهود أوّلًا تؤرخ بوفاة موسى عليه السلام ثم صارت تؤرخ بتاريخ الإسكندر بن فيلبش وشهور سنتهم اثنا عشر شهرًا وأيام السنة ثلاثمائة وأربعة وخمسون يومًا‏.‏

فأما الشهور فإنها تشري مر حشوان كسليو طبيث شفط آذر نيس أيار سيوان تموز آب أيلول‏.‏

وأيام سنتهم أيام سنة القمر ولو كانوا يستعملونها على حالها لكانت أيام سنتهم وعدد شهورهم شيئًا واحدًا ولكنه لما خرج بنو إسرائيل من مصر مع موسى عليه السلام إلى التيه وتخلصوا من عذاب فرعون وما كانوا فيه من العبودية وائتمروا بما أمروا به كما وصف في السِّفْرِ الثاني من التوراة اتفق ذلك ليلة اليوم الخامس عشر من نيس والقمر تام الضوء والزمان ربيع‏.‏

فأمروا بحفظ هذا اليوم كما قال في السفر الثاني من التوراة احفظوا هذا اليوم سنة لخلوفكم إلى الدهر في أربعة عشر من الشهر الأول وليس معنى الشهر الأوّل هذا شهر تشري ولكنه عني به شهر نيس من أجل أنهم أمروا أن يكون شهر الناسخ رأس شهورهم ويكون أول السنة فقال موسى عليه السلام للشعب‏:‏ ‏"‏ اذكروا اليوم الذي خرجتم فيه من التعبد فلا تأكلوا خميرًا في هذا اليوم في الشهر الذي ينضر فيه الشجر ‏"‏‏.‏

فلذلك اضطرّوا إلى استعمال سنة الشمس ليقع اليوم الرابع عشر من شهر نيس في أوان الربيع حين تورق الأشجار وتزهو الثمار وإلى استعمال سنة القمر ليكون جرمه فيه بدرًا تام الضوء في برج الميزان وأحوجهم ذلك إلى إلحاق الأيام التي يتقدّم بها عن الوقت المطلوب بالشهور إذا استوفيت أيام شهر واحد فألحقوها بها شهرًا تامًا سمّوه آذار الأوّل وسموا آذار الأصل آذار الثاني لأنه ردف سميًا له وتلاه وسموا السنة الكبيسة عبورًا اشتقاقًا من معبار وهي المرأة الحبلى بالعبرانية لأنهم شبهوا دخول الشهر الزائد في السنة بحمل المرأة ما ليس من جملتها ولهم في استخراج ذلك حسابات كثيرة مذكورة في الأزباج‏.‏

وهم في عمل الأشهر مفترقون فرقتين إحداهما الربانية‏:‏ واستعمالهم إياها على وجه الحساب بمسير الشمس والقمر الوسط سواء رُؤي الهلال أو لم يُر فان الشهر عندهم هو مدّة مفروضة تمضي من لدن الاجتماع الكائن بين الشمس والقمر في كل شهر وذلك أنهم كانوا وقت عودهم من الجالية ببابل إلى بيت المقدس ينصبون على رؤوس الجبال دبادب ويُقيمون رقباء للفحص عن الهلال وألزموهم بإيقاد النار وتدخين دخان يكون علامة لحصول الرؤية وكانت بينهم وبين السامرة العداوهٌ المعروفة فذهبت السامرة ورفعوا الدخان فوق الجبل قبل الرؤية بيوم ووالوا بين ذلك شهورًا اتفق في أوائلها أن السماء كانت متغيمة حتى فطن لذلك من في بيت المقدس ورأوا الهلال غداة اليوم الرابع أو الثالث من الشهر مرتفعًا عن الأفق من جهة المشرق فعرفوا أن السامرة فتنتهم فالتجأوا إلى أصحاب التعاليم في ذلك الزمان ليأمنوا بما يتلقونه من حسابهم مكايد الأعداء واعتلوا لجواز العمل بالحساب ونيابته عن العمل بالرؤية بعلل ذكروها فعمل أصحاب الحساب لهم الأدوار وعلموهم استخراج الاجتماعات ورؤية الهلال وأنكر بعض الربانية حديث القرباء ورفعهم الدخان وزعموا أن سبب استخراج هذا الحساب هو أن علماءهم علموا أن آخر أمرهم إلى الشتات فخافوا إذا تفرقوا في الأقطار وعولوا على الرؤية أن تختلف عليهم في البلدان المختلفة فيتشاجروا فلذلك استخرجوا هذه الحسبانات واعتنى بها اليعازر بن فروح وأمروهم بالتزامها والرجوع إليها حيث كانوا‏.‏

والفرقة الثانية هم الميلادية الذين يعملون مبادي الشهور من الاجتماع ويُسَمّون القرّاء والأسمعية لأنهم يراعون العمل بالنصوص دون الإلتفات إلى النظر والقياس ولم يزالوا على ذلك إلى أن قدم عاتان رأس الجالوت من بلاد المشرق في نحو الأربعين ومائة من الهجرة إلى دار السلام بالعراق فاستعمل الشهور برؤية الأهلة على مثل ما شرع في الإسلام ولم يبال أي أيّ يوم وقع من الأسبوع وترك حساب الربانيين وكبس الشهور بأن نظر كل سنة إلى زرع الشعير بنواحي العراق والشام فيما بين أوّل شهر نيسن إلى أن يمضي منه أربعة عشر يومًا فإن وجد باكورة تصلح للفريك والحصاد ترك السنة بسيطة وإن وجدها لم تصلح لذلك كبسها حينئذ وتقدّمت المعرفة بهذه الحالة وإنّ من أخذ برأيه يخرج لسبعة تبقى من شفط فينظر بالشام والبقاع المشابهة له في المزاج إلى زرع الشعير فإن وجد السفا وهو شوك السنبل قد طلع عد منه إلى الفاسح خمسين يومًا وإن لم يره طالعًا كبسها بشهر فبعضهم يردف الكبس بشفط فيكون في السنة شفط وشفط مرّتين وبعضهم يردفه بآذر فيكون آذر وآذر في السنة مرّتين وأكثر استعمال العانانية لشفط دون آذر كما أن الربانية تستعمل آذر دون غيره‏.‏

فمن يعتمد من الربانية عمل الشهور بالحساب يقول‏:‏ إن شهر تشري لا يكون أوّله يوم الأحد والأربعاء وعدّته عندهم ثلاثون يومًا أبدًا وفيه عيد رأس السنة وهو عيد البشارة بعتق الأرقاء وهذه العيد في أوّل يوم منه ولهم أيضًا في اليوم العاشر منه صوم الكبور ومعناه الاستغفار وعند الربانيين أن هذا الصوم لا يكون أبدًا يوم الأحد ولا الثلاثاء ولا الجمعة وعند من يعتمد في الشهور الرؤية أن ابتداء هذا الصوم من غروب الشمس في ليلة العاشر إلى غروبها من ليلة الحادي عشر وذلك أربع وعشرون ساعة‏.‏

والربانيون يجعلون مدّة الصوم خمسًا وعشرين ساعة إلى أن تشتبك النجوم ومن لم يصم منهم هذا الصوم قُتِل شرعًا وهم يعتقدون أن اللّه يغفر لهم فيه جميع الذنوب ما خلا الزنا بالمحصنات وظلم الرجل أخاه وجحد الربوبية وفيه أيضًا عيد المظلة وهو سبعة أيام يعيدون في أولها ولا يخرجون من بيوتهم كما هو العمل يوم السبت وعدّة أيام المظلة إلى آخر اليوم الثاني والعشرين تمام سبعة أيام واليوم الثامن يُقال له عيد الإعتكاف وهم يجلسون في هذه الأيام السبعة التي أولها خامس عشر تشري تحت ظلال سعف النخل الأخضر وأغصان الزيتون ونحوها من الأشجار التي لا يتناثر ورقها على الأرض ويرون أن ذلك تذكار منهم لإظلال اللّه آباءهم في التيه بالغمام وفيه أيضًا عيد القرّائين خاصة صوم في اليوم الرابع والعشرين منه يُعرف بصوم كدليا وعند الربانيين يكون هذا الصوم في ثالثه‏.‏

وشهر مر حشوان ربما كان ثلاثين يومًا وربما كان تسعة وعشرين يومًا وليس فيه عيد‏.‏

وكسليو ربما كان ثلاثين يومًا وربما كان تسعة وعشرين يومًا وليس فيه عيد إلاّ أن الربانيين يسرجون على أبوابهم ليلة الخامس والعشرين منه وهو مدّة أيام يسمونها الحنكة وهو أمر محدث عندهم وذلك أن بعض الجبابرة تغلب على بيت المقدس وقتل من كان فيه من بني إسرائيل وافتض أبكارهم فوثب عليه أولاد كاهنهم وكانوا ثمانية فقتله أصغرهم وطلب اليهود زيتًا لوقود الهيكل فلم يجدوا إلا يسيرًا وزعوه على عدد ما يوقدونه من السرج في كل ليلة إلى ثمان ليال فاتخذوا هذه الأيام عيدًا وسموها أيام الحنكة وهي كلمة مأخوذة من التنظيف لأنهم نظفوا فيها الهيكل من أقذار أشياع ذلك الجبار والقرّاء لا يعملون ذلك لأنهم لا يعولون على شيء من أمر البيت الثاني‏.‏

وشهر طبيث عدد أيامه تسعة وعشرون يومًا وفي عاشره صوم سببه أنه في ذلك اليوم كان ابتداء محاصرة بخت نصر لمدينة بيت المقدس ومحاصرة طيطش لها أيضًا في الخراب الثاني‏.‏

وشفط أيامه أبدًا ثلاثون يومًا وليس فيه عيد‏.‏

وشهر آذر عند الربانيين كما تقدّم يكون مرتين في كلّ سنة فآذر الأوّل عدد أيامه ثلاثون يومًا إن كانت السنة كبيسة وإن كانت بسيطة فأيامه تسعة وعشرون يومًا وليس فيه عيد عندهم‏.‏

وآذر الثاني أيامه تسعة وعشرون يومًا أبدًا وفيه عند الربانيين صوم الفوز في اليوم الثالث عشر منه والفوز في اليوم الرابع عشر واليوم الخامس عشر وأما القرّاؤون فليس عندهم في السنة شهر آذر سوى مرّة واحدة ويجعلون صوم الفور في ثالث عشرة وبعده إلى الخامس عشر وهذا أيضًا محدث وذلك أن بخت نصر لما أجلى بني إسرائيل من بيت المقدس وخرّبه ساقهم جلاية إلى بلاد العراق وأسكنهم في مدينة هي التي يُقال لها أصبهان فلما ملك أزدشير بن بابك ملك الفرس وتسمية اليهود أحشوارش كان له وزير يُسمى هيمون وكان لليهود حينئذ حبر يُقال له مردوخاي فبلغ أزدشير أن له ابنة عم جميلة الصورة فتزوّجها وحظيت عنده واستدنى مردوخاي ابن عمها وقرّبه فحسده الوزير هيمون وعمل على هلاكه وهلاك اليهود الذين في مملكة أزدشير ورتب مع نوّاب أزدشير في سائر أعماله أن يقتلوا كلّ يهوديّ عندهم في يوم عينه لهم وهو الثالث عشر من آذر فبلغ ذلك مردوخاي فأعلم ابنة عمه بما دبره الوزير وحثها على إعمال الحيلة في تخليص قومها من الهلكة فأعلمت أزدشير بحسد الوزير لمردوخاي على قربه من الملك وإكرامه وما كتب به إلى العمال من قتل اليهود وما زالت به تغريه على الوزير إلى أن أمر بقتله وقتل أهله وكتب لليهود أمانًا فاتخذ اليهود هذا اليوم من كلّ سنة عيدًا وصاموه شكرًا لله تعالى وجعلوا من بعده يومين اتخذوهما أيام فرح وسرور ولهو ومهاداة من بعضهم لبعض وهم على ذلك إلى اليوم وربما صوّر بعضهم في هذا اليوم صورة هيمون الوزير وهم يسمونه هامان فإذا صوّروه ألقوه بعد العبث به في النار حتى يحترق‏.‏

وشهر نيسن عدد أيامه ثلاثون يومًا أبدًا وفيه عيد الفاسح الذي يُعرف اليوم عند النصارى بالفسح ويكون في الخامس عشر منه وهو سبعة أيام يكلون فيها الفطير وينظفون بيوتهم من أجل أن الله سبحانه خلص بني إسرائيل من أسر فرعون في هذه الأيام حتى خرجوا من مصر مع نبي الله موسى بن عمران عليه السلام وتبعهم فرعون فأغرقه الله ومن معه وسار موسى ببني إسرائيل إلى التيه ولما خرجوا من مصر مع موسى كانوا يأكلون اللحم والخبز والفطير وهم فرحون بخلاصهم من يد فرعون فأمروا باتخاذ الفطير وأكله في هذه الأيام ليذكروا أنه ما منّ الله عليهم به من انقاذهم من العبودية وفي آخر هذه الأيام السبعة كان غرق فرعون وهو عندهم يوم كبير ولا يكون أوّل هذا الشهر عند الربانيين أبدًا يوم الاثنين ولا يوم الأربعاء ولا يوم الجمعة ويكون أوّل الخمسينيات من نصفه‏.‏

وشهر أيار عدد أيامه تسعة وعشرون يومًا وفيه عيد الموقف وهو حج الأسابيع وهي الأسابيع التي فرضت على بني إسرائيل فيها الفرائض ويقال لهذا العيد في زمننا عيد العنصرة وعيد الخطاب ويكون بعد عيد الفطير وفيه خوطب بنو إسرائيل في طور سيناء ويكون هذا العيد في السادس منه وفيه أيضًا يوم الخميس وهو آخر الخمسينيات ولا يكون عيد العنصرة عند الربانيين أبدًا يوم الثلاثاء ولا يوم الخميس ولا يوم السبت‏.‏

وشهر تموز أيامه تسعة وعشرون يومًا وليس فيه عيد لكنهم يصومون في تاسعه لأن فيه هدم سور بيت المقدس عند محاصرة بخت نصر له والربانيون خاصة يصومون يوم السابع عشر منه لأنّ فيه هدم طيطش سور بيت المقدس وخرب البيت البيت الخراب الثاني‏.‏

وشهر آب ثلاثون يومًا وفيه عيد القرّائين صوم في اليوم السابع واليوم العاشر لأنّ بيت المقدس خرب فيهما على يد بخت نصر وفيه أيضًا كان إطلاق بخت نصر النار في مدينة القدس وفي وشهر أيلول تسعة وعشرون يومًا أبدًا وليس فيه عيد والله تعالى أعلم‏.‏

معنى قولهم يهودي اعلم أن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين سماه الله إسرائيل ومعنى ذلك الذي رأسه القادر وكان له من الولد اثنا عشر ذكرًا يُقال لكلّ واحد منهم سبط ويقال لمجموعهم الأسباط وهذه أسماؤهم روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا ويساخر وزبولون‏.‏

والستة أشقاء أمّهم ليا بنت لابان بن بتويل بن ناحور أخي إبراهيم الخليل‏.‏

وكان واشار ودان ونفتالي ويوسف وبنيامين‏.‏

فلما كبر هؤلاء الأسباط الإثنا عشر قدّم عليهم أبوهم يعقوب وهو إسرائيل ابنه يهوذا وجعله حاكمًا على إخوته الأحد عشر سبطًا فاستمرّ رئيسًا وحاكمًا على إخوته إلى أن مات فورثت أولاد يهوذا رياسة الأسباط من بعده إلى أن أرسل اللّه تعالى موسى ابن عمران بن قاهاث بن لاوي بن يعقوب إلى فرعون بعد وفاة يوسف بن يعقوب عليهما السلام بمائة وأربع وأربعين سنة وهم رؤساء الأسباط‏.‏

فلما نجى الله موسى وقومه بعد غرق فرعون ومن معه رتب عليه السلام بني إسرائيل الإثني عشر سبطًا أربع فرق وقدّم على جميعهم سبط يهوذا فلم يزل سبط يهوذا مقدمًا على سائر الأسباط أيام حياة موسى عليه السلام وأيام حياة يوشع بن نون‏.‏

فلما مات يوشع سأل بنو إسرائيل الله تعالى وابتهلوا إليه في قبة الشمشار أن يقدّم عليهم واحدًا منهم فجاء الوحي من الله بتقديم عثنيئال بن قناز من سبط يهوذا فتقدّم على سائر الأسباط وصار بنو يهوذا مقدمين على سائر الأسباط من حينئذٍ إلى أن ملَّك الله على بني إسرائيل نبيه داود وهو من سبط يهوذا فورث ملك بني إسرائيل من بعده ابنه سليمان بن داود عليهما السلام‏.‏

فلما مات سليمان افترق ملك بني إسرائيل من بعده وصار لمدينة شمرون التي يقال لها اليوم نابلس عشرة أسباط وبقي بمدينة القدس سبطان‏.‏

هما سبط يهوذا وسبط بنيامين وكان يُقال لسكان شمرون بنو إسرائيل ويقال لسكان القدس بنو يهوذا إلى أن انقرضت دولة بني إسرائيل من مدينة شمرون بعد مائتين وإحدى وخمسين سنة فصاروا كلهم بالقدس تحت طاعة الملوك من بني يهودا إلى أن قدم بخت نصر وخرّب القدس وجلا جميع بني إسرائيل إلى بابل فعرفوا هناك بين الأمم ببني يهوذا واستمرّ هذا سمة لهم بين الأمم بعد ذلك إلى أن جاء الله بالإسلام فكان يُقال للواحد منهم يهوذي بذال معجمة نسبة إلى سبط يهوذا وتلاعب العرب بذلك على عادتهم في التلاعب بالأسماء المعجمة وقالوها بدال مهملة وسموا طائفة بني إسرائيل اليهود وبهذه اللغة نزل القرآن ويقال أنّ أول من سمى بني إسرائيل اليهود بخت نصر واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون‏.‏

 معتقد اليهود وكيف وقع عندهم التبديل

اعلم أن الله سبحانه لما أنزل التوراة على نبيه موسى عليه السلام ضمنها شرائع الملة الموسوية وأمر فيها أن يُكتب لكلِّ من يلي أمر بني إسرائيل كتاب يتضمن أحكام الشريعة لينظر فيه‏.‏

ويعمل به وسمي هذا الكتاب بالعبرانية مشنا ومعناه استخراج الأحكام من النص الإلهيّ وكتب موسى عليه السلام بخط يده مشنًا كأنه تفسير لما في التوراة من الكلام الإلهيّ فلما مات موسى عليه السلام وقام من بعده بأمر بني إسرائيل يوشع بن نون ومن بعده إلى أن كانت أيام يهوياقيم ملك القدس غزاهم بخت نصر الغزوة الأولى وهم يكتبون لكل من ملكهم مشنًا ينقلونها من المشنا التي بخط موسى ويجعلونها باسمه فلما جلا بخت نصر يهوياقيم الملك ومعه أعيان بني إسرائيل وكبراء بيت المقدس وهم في زيادة على عشرة آلاف نفس ساروا ومعهم نسخ المشنا التي كتبت لسائر ملوك بني إسرائيل بأجمعها إلى بلاد المشرق فلما سار بخت نصر من باب الكرّة الثانية لغزو القدس وخرّبه وجلا جميع من فيه وفي بلاد بني إسرائيل من الأسباط الاثني عشر إلى باب أقاموا بها وبقي القدس خرابًا لا ساكن فيه مدّة سبعين سنة ثم عادوا من بابل بعد سبعين سنة وعمروا القدس وجدّدوا بناء البيت ثانيًا ومعهم جميع نسخ المشنا التي خرجوا بها أوّلًا‏.‏

فلما مضت من عمارة البيت الثاني بعد الجلاية ثلاثمائة ونيف من السنين اختلف بنو إسرائيل في دينهم اختلافًا كثيرًا فخرج طائفة من آل داود عليه السلام من بيت المقدس وساروا إلى الشرق كما فعل آباؤهم أوّلًا وأخذوا معهم نسخًا من المشنا التي كتبت للملوك من مشنا موسى التي بخطه وعملوا بما فيها ببلاد الشرق من حين خرجوا من القدس إلى أن جاء الله بدين الإسلام وقدم عانان رأس الجالوت من المشرق إلى العراق في خلافة أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور سنة ست وثلاثين ومائة من سني الهجرة المحمدية‏.‏

وأما الذين أقاموا بالقدس من بني إسرائيل بعد خروج من ذكرنا إلى الشرق من آل داود فإنهم لم يزالوا في افتراق واختلاف في دينهم إلى أن غزاهم طيطش وخرّب القدس الخراب الثاني بعد قتل يحيى بن زكريا ورفع المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام وسبى جميع من فيه وفي بلاد بني إسرائيل بأسرهم وغيب نسخ المشنا التي كانت عندهم بحيث لم يبق معهم من كتب الشريعة سوى التوراة وكُتب الأنبياء وتفرّق بنو إسرائيل من وقت تخريب طيطش بيت المقدس في أقطار الأرض وصاروا ذمّة إلى يومنا هذا ثم إن رجلين ممن تأخرا إلى قبيل تخريب القدس يُقال لهما شماي وهلال نزلا مدينة طبرية وكتبا كتابًا سمياه مشنا باسم مشنا موسى عليه السلام وضمنا هذا المشنا الذي وضعاه أحكام الشريعة ووافقهما على وضع ذلك عدّة من اليهود وكان شماي وهلال في زمن واحد وكانا في أواخر مدّة تخريب البيت الثاني وكان لهلال ثمانون تلميذًا أصغرهم يوحانان بن زكاي وأدرك يوحانان بن زكاي خراب البيت الثاني على يد طيطش وهلال وشماي أقوالهما مذكورة في المشنا وهي في ستة أسفار تشتمل على فقه التوراة وإنما رتبها النوسيّ من ولد داود النبيّ بعد تخريب طيطش للقدس بمائة وخمسين سنة ومات شماي وهلال ولم يكملا المشنا فأكمله رجل منهم يعرف بيهودا من ذرية هلال وحمل اليهود على العمل بما في هذا المشنا وحقيقته أنه يتضمن كثيرًا مما كان في مشنا النبيّ موسى عليه السلام وكثيرًا من آراء أكابرهم‏.‏

فلما كان بعد وضع هذا المشنا بنحو خمسين سنة قام طائفة من اليهود يُقال لهم السنهدوين ومعنى ذلك الأكابر وتصرّفوا في تفسير هذا المشنا برأيهم وعملوا عليه كتابًا اسمه التلمود أخفوا فيه كثيرًا مما كان في ذلك المشنا وزادوا فيه أحكامًا من رأيهم وصاروا منذ وضع هذا التلمود الذي كتبوه بأيديهم وضمنوه ما هو من رأيهم ينسبون ما فيه إلى اللّه تعالى ولذلك ذمّهم الله في القرآن الكريم بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ‏"‏ ‏"‏ البقرة ‏"‏ وهذا التلمود نسختان مختلفتان في الأحكام والعمل إلى اليوم على هذا التلمود عند فرقة الربانيين بخلاف القرّائين فإنهم لا يعتقدون العمل بما في هذا التلمود‏.‏

فلما قدم عانان رأس الجالوت إلى العراق أنكر على اليهود عملهم بهذا التلمود وزعم أن الذي بيده هو الحق لأنه كتب من النسخ التي كتبت من مشنا موسى عليه السلام الذي بخطه والطائفة الربانيون ومن وافقهم لا يعوّلون من التوراة التي بأيديهم إلاّ على ما في هذا التلمود وما خلف ما في التلمود لا يعبأون به ولا يعوّلون عليه كما أخبر تعالى إذ يقول حكاية عنهم‏:‏ ‏"‏ إنا وجدنا آباءنا على أمّة وإنا على آثارهم مقتدون ‏"‏ ‏"‏ الزخرف ‏"‏ ومن اطلع على ما بأيديهم وما عندهم من التوراة تبين له أنهم ليسوا على شيء وأنهم إن يتبعون إلاّ الظنّ وما تهوى الأنفس ولذلك لما نبغ فيهم موسى بن ميمون القرطبيّ عوّلوا على رأيه وعملوا بما في كتاب الدلالة وغيره من كتبه وهم على رأيه إلى زمننا‏.‏